لماذا يبدو وكأن هناك شعرة رفيعة بين الجنون والعبقرية؟ أم أن الجنون حقا هو الرفيق الخفي للعبقرية!
على
الرغم من أننا لا نستطيع أن نفحص نفسيا أولئك المبدعين الذين رحلوا عن
دنيانا منذ وقت بعيد، إلا أن ذلك لم يمنع الباحثين من التنبؤ بالظروف
العقلية التي عانى منها هؤلاء العباقرة، عبر تفسير رسائلهم الشخصية
وأعمالهم وشهادات من عاشوا بالقرب منهم.
تبين
أن بعضا من أعظم عباقرة عالمنا كانوا مهووسون إلى درجة الجنون، ويرى بعض
العلماء أن نسبة كبيرة من هؤلاء المبدعين، مثل الشعراء والرسامين
والموسيقيين وغيرهم، عانوا من الهوس الاكتئابي أو الاضطراب ثنائي القطب Bipolar Disorder
أكثر من الأشخاص العاديين، وهو أحد الأمراض النفسية التي تتميز بتناوب
فترات من الكآبة، مع فترات من الابتهاج غير الطبيعي التي تدفع الشخص للقيام
بأعمال طائشة وغير مسئولة في بعض الأحيان، وينضم إلى تلك العقول المبدعة
الكتاب، مثل ماري شيلي وفيرجينيا وولف وارنست همنجواي، والموسيقيون، مثل
ايرفينج برلين وسيرجي رحمانينوف، والرسامون، مثل بول جوجان وجاكسون بولوك.
واكتشف الباحثون في جامعة تورنتو أن من حازوا ملكات إبداعية غاب لديهم التثبيط الكامن Latent Inhibition،
وهي القدرة غير الواعية التي ترفض التحفيز والالتفات للمؤثرات الحسية
المألوفة، ويعني ذلك أن المبدعين يحافظون دوما على صلتهم بملاحظة البيئة
حولهم والتفكير في ظواهرها، بيد أن الشخص العادي لا يستطيع الاستمرار طويلا
في الانشغال باهتمام معين، قبل أن يلتفت بعيدا عنه، وقد يكون ذلك أكثر
وضوحا عندما نلقي نظرة خاطفة على بعض هؤلاء العباقرة الذين عانوا من المرض
النفسي والجنون.
إسحاق نيوتن (1642 – 1727)
يعرف
إسحاق نيوتن مفكرا من طراز رفيع متعدد الإسهامات في علوم الفيزياء
والميكانيكا، واتفقت استطلاعات الرأي، بين كثير من العلماء وغير المتخصصين
على حد سواء، على تجاوز تأثير نيوتن لتأثير ألبرت أينشتاين في حياتنا
العلمية، ومن تلك الإسهامات البارزة اختراعه لحساب التفاضل والتكامل، وشرحه
للجاذبية الكونية، وتطويره لقوانين الحركة، وبنائه لأول تلسكوب عاكس.
ورغم
انجازاته الكبيرة، فقد عانى نيوتن من نزاعات نفسية وتقلبات مزاجية، حتى في
كثير من فترات حماسه العلمي، وكان من الصعب عليه في كثير من الأحيان
التكيف معها، وفي كتابهما "الهوس الاكتئابي والإبداع" Manic Depression and Creativity،
وصف الكاتبان، جوليان ليب وجابلو هيرشمان، نيوتن بمريض الاضطراب ثنائي
القطب، كما تضفي بعض رسائله المحيرة نوعا من المصداقية على معاناته من
الفصام أو السكيتسوفرينيا، فقد توفي والده قبل ولادته، وانفصل عن والدته
بين الثانية والـ 11 من عمره، وربما نشأ اضطرابه العقلي نتيجة لتجربته
المؤلمة في مرحلة الطفولة.
لودفيج فان بيتهوفن (1770 – 1827)
أثرت
مساهمات بيتهوفن فنون الموسيقي بشكل هائل، ومع ذلك فقد عاش المؤلف
الموسيقي الشهير حياة صعبة، فهو ابن لأب مستهتر أدمن الكحول بشكل دائم،
الأمر الذي جعله مسئولا عن أسرته، وهو في سن الـ 18، وكان مرضه واحدا من
الجوانب الأكثر مأساوية في حياته، بعدما قاده تدريجيا إلى الصمم الكامل،
بين عمر الـ 30 والـ 49، ورغم صممه، كان بيتهوفن قادرا على تأليف أكثر
أعماله شهرة وجودة.
في
نفس الوقت، وثّق بيتهوفن صراعه الداخلي في رسائله إلى إخوته، حينما تحدث
مداعبا عن الانتحار، ورأى هيرشمان وليب في كتابهما أن بيتهوفن ربما عانى من
الإضراب ثنائي القطب، كما طرحت فرانسوا مارتن ماي، في كتابها "تشخيص
العبقرية"، احتمال إصابته كذلك بالاكتئاب ثنائي القطب.
وبالرغم
من ميوله الاكتئابية، كان لدى بيتهوفن فترات من القوة والنشاط تتسق مع
الإضطراب ثنائي القطب الذي عانى منه، وقد كشفت الاختبارات الحديثة، التي
أجريت على عينة من شعره، وجود محتوى عال من الرصاص يمكن أن يسبب المرض
العقلي والنفسي، إلى جانب أمراض الجهاز الهضمي التي داوم على الشكوى منها
بالفعل.
ادجار آلان بو (1809 – 1849)
اشتهر
الكاتب الأمريكي "ادجار آلان بو" عبر قصصه المرعبة والبوليسية، التي زادت
من شهرته العالمية بين قارئي هذا النوع من الأدب، وقد وضع آلان بو تركيزا
كبيرا في كتابة القصص القصيرة، والتي صنفت أحدها، وهي "جرائم القتل في شارع
المشرحة"، كأول قصص تحقيقات مسرح الجريمة في صورتها الحديثة، ومع مهارته
ككاتب، عانى "بو" من إدمان المسكرات والكحوليات، وقد كشفت بعض رسائله عن
معاناته من بعض الأفكار الانتحارية، وما زالت ملابسات موته في سن الـ 40
غير معروفة بالكامل، وإن أرجعها البعض إلى فشل في القلب بسبب الكحوليات
التي أدمنها، واعتمدت كاي ريدفيلد جامسون على خطابات كتبها أدجار آلان بو
بنفسه لكي تدلل على إصابته بالهوس الاكتئابي، وفي كتابها "الملموس بالنار" Touched with Fire، ذكرت كاي جامسون أن الإبداع، كما في حالة آلان بو، يمكن أن ينبع من حالة الهوس التي أصابت عقله.
فنسنت فان جوخ (1853 – 1890)
للرسام
الشهير "فان جوخ" أسلوب خاص يميز لوحاته، للدرجة التي يمكن التعرف عليه من
خطوط فرشاته وتعبيراته الفريدة، كما في لوحة "ليلة مليئة بالنجوم" Starry Night
التي تجسد أسلوبه الفريد، ومع ذلك لم يحظ "فان جوخ"، حتى وفاته، بالشعبية
التي يستحقها، بينما يعتبر الآن أحد أعظم الرسامين في التاريخ البشري.
وعاش
فان جوخ معذبا في حياته، فهو الرسام الذي يعرفه الجميع بقطعه لجزء من
أذنه، وهو الذي شرب زيت التربنتين، وحاول تناول الطلاء، وانتهت حياته
منتحرا بطريقة مأساوية في عام 1890.
ويري
كتاب "الهوس الاكتئابي والإبداع" إصابة فان جوخ بالإضطراب ثنائي القطب،
وتوصلت كاي جامسون لنفس النتيجة في كتابها أيضا، وقد تناولت بالشرح مرض
"فان جوخ" العقلي، لافتة النظر إلى الأنماط الموسمية لمزاج الرسام وحالته
النفسية التي ظهرت في إنتاجه، واختلفت باختلاف حالته النفسية، كما رأي
آخرون أنه قد عاني أيضا من مرض فصام الشخصية.
جون ناش (1928)
بفضل فيلم "عقل جميل" A Beautiful Mind،
أصبحت شخصية "جون ناش" أكثر شهرة وشعبية بين أوساط العامة وغير المتخصصين،
و"جون ناش" عالم رياضيات شهير عانى من السكيتسوفرينيا الإرتيابية (فصام
الاضطهاد وجنون العظمة) Paranoid Schizophrenia، وقدم ناش إسهامات مهمة إلى نظرية الألعاب Game Theory،
حيث التحليل الرياضي لحالات تضارب المصالح والبحث عن أفضل الخيارات
الممكنة لاتخاذ قرارات تؤدي للحصول على النتيجة المرغوبة، وأوضحت فكرته
"توازن ناش" Nash Equilibrium مدى الاستفادة التي
تتحقق عند تغير استراتيجية اللعب أوالتنفيذ، ويمكن تطبيق "توازن ناش" في
مجالات عديدة، من بينها الاقتصاد والعلوم العسكرية، وقد اعتمد الجيش
الأمريكي على الخطط والتكتيكات القائمة على فكرة ناش في حقبة الحرب
الباردة.
بني
الفيلم على سيرة ذاتية بنفس الاسم حول حياة جون ناش، وقدم معاناته من
الهلاوس والأوهام التي انتهت بمرضه بجنون العظمة، وبعد نحو 30 عام قضاها
ناش في معاناته من هذا الاضطراب، استطاعت أفكاره تحقيق انتعاشا اقتصاديا
كبيرا في أواخر الثمانينيات، وفي عام 1994، تلقي جون ناش جائزة نوبل للعلوم
الإقتصادية لعمله المبكر على نظرية الألعاب، ويشير ناش دائما إلى أن
التفكير الغير منطقي قد يكون له العديد من الفوائد أحيانا.